النشاطات

العتبة العباسية المقدسة: فتوى الدفاع المقدسة وحدت جزيئات الوطن القومية والدينية والمذهبية

العتبة العباسية المقدسة: فتوى الدفاع المقدسة وحدت جزيئات الوطن القومية والدينية والمذهبية

موقع قسم الشؤون الفكرية والثقافية

2025-05-30

أكدت العتبة العباسية المقدسة أنّ فتوى الدفاع المقدسة وحّدت جزيئاتِ الوطن، القوميّةِ والدينيةِ والمذهبيةِ.

جاء ذلك في كلمتها التي ألقاها عضو مجلس إدارتها الدكتور عباس الدده الموسوي، في أثناء فعاليات مهرجان فتوى الدفاع المقدسة الثقافي التاسع، الذي يُقام تحت شعار (المرجعية الدينية حصن الأمة الإسلامية)، وينظمه كل من: قسم الشؤون الفكرية والثقافية، ومؤسسة الوافي للتوثيق والدراسات في العتبة المقدسة.

وفي أدناه نص الكلمة:

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله كما ينبغي لجلال وجهه وعظيم سلطانه وعلو مكانه، حمدًا له بجميع محامده كلها على جميع نعمه كلها، وأزكى الصلاة وأتمّ التسليم على سيّد من خَلَق وصفوة من اصطفى وعلى أهل بيته محالّ معرفة الله وسدنة رسالته وموضع هدايته.

السلام على بقية الله في البلاد وحجته على سائر العباد ورحمة الله وبركاته

السلام على عراقنا الموحد، وعلى آية توحيده الكبرى السيد السيستاني أدام الله بقاءهما

السلام على رجالات الفتوى أحياءً عند ربهم يرزقون، أو أحياءً بيننا..

السلام على الفتوى وذكراها، وعلى كل من يحتفي بها هنا أوهناك أوهنالك

السلام عليكم بمقاماتٍ محفوظة وأسماءٍ محمودة ورحمة الله وبركاته

وبعد: فطالما دعونا هنا في العتبة العباسية المقدسة إلى الاحتفاءِ بذكرى فتوى الدفاع الكفائي

وعبّرنا مرارًا وتكرارًا عن أهمية ذلك لنجددَ بها عهدًا وموثقَ صدقٍ مع من أوكلته العنايةُ الإلهية أمرَ أمانِ العراق وأمنهِ، نعني صاحبَ الفتوى وفتواه، وحشدَ الملبين لها، (أنّ العهد كان مسؤولا)..

ولنحفظَ للفتوى المباركةِ حقَّــها، ولا نَبْخَسَها منزلتها، ونُبرِّزَ دورَها في حفظ العراقِ وإنسانِه وأرضِه، وعِرضِه ومقدساتِه...

لذلك، فعلينا _أيها الإخوة_ أن نوثق ذلك التاريخَ القريب الذي رزحت فيه محافظات عراقية تحت وطأةِ داعش الذين ما برحوا يَسومُونَ الناس سوءَ الْعَذَابِ يُذَبحُونَ الأبناء وَيَستَحْيُونَ النساء، وقد خيّم ظلامهم علينا، فلم ينعق بسوى الموت.. علينا أن نوثّقَه ما دمنا شهودًا عليه، وأن نوثقه من صدور رجالاته، وعلى مقربة من فضاءاته، وتحت عين زمانه، كي لا ندع فرصةً أو مجالًا لأهواء أعداءِ الحقيقة أعداءِ الوطن أعداءِ الإنسان بنسج ما يريدون من تشويهاتٍ وأباطيلَ ضالةٍ مضللة، كالتي بدأت تتناسل تناسلًا عنكبوتيًّا في الإعلام السائد المضاد، وفي مواقع التواصل المغرضة؛ وإنّ منهم مَنْ نسيَ أو تناسى، وإنّ منهم من ينكر فضلها، وإنّ منهم من ينسب الفضل إلى غير أهله، أو إلى نفسه زورًا وبهتانًا، ممن يصدق عليهم قوله عزّ من قال:

(لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوا وَّيُحِبُّونَ أَن يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا فَلَا تَحْسَبَنَّهُم بِمَفَازَةٍ مِّنَ الْعَذَابِ ۖ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) ولعل قولَه تعالى هذا من المواضع القرآنية التي قلّ أن يجتمع فيها ذكرُ العذاب مرتين، في موضع واحد، وكأنّه جلّت قدرته، أراد أن يناسب بين قبيحِ هذا الفعل، وجزاء من يفعلُه، فجعل له العذاب ضعفين.

أيها الإخوة لقد راح المشهد الإعلامي يفرز يوميًّا تشويهات لحقيقة ذلك الزمن، ودور الحشد الشعبي فيه.. وتزييفِ الحوادث وتحريفِ الانتصارات، وتصغيرِ عظيمِها في عيون التاريخ.

ولا شك أنّكم تدركون معنا وتوقنون، أنّه حدثٌ تاريخيٌ أولى بالتوثيق، والتدوين، والحفظ؛ فيوم ذاك رأينا رأي العين شراذمَ الأرض وشذاذَ الآفاق يغتصبون الوطن قطعةً تلو أخرى، ويعيثون فيه فسادًا ودمارًا، فدنسوا قدسيةَ وطنِ الأنبياء والأوصياء، وتمددت نيرانهم لتلتهم الحرثَ والنسلَ؛ فتدافع الملبّون لفتوى الدفاع الكفائي بسواعدهم السمراء، على مقرّات التطوّع ، ولم تمنعهم قلةُ ذات اليد، بل انعدامُها من أن يقترضوا ثمنَ سفرهم صوبَ جبهات الموت المحتوم، وتزاحموا حول قاطرات النقل، كأنما يتزاحمون على عينِ ماءٍ في صحراء، وسيقوا إلى خط النار كأنما يساقون إلى الجنة زمرًا، خروجوا أفواجًا وأسرابًا كالطيور، وتسابقوا للوصول إلى خط التماس مع داعش، كأنما هم على موعدٍ مع خزنة الجنان، ليقولوا لهم: سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ.

لقد بدت الحياة وقتذاك جحيمًا، والبلاد مهددة بالانقراض، وتغلغل السواد في فضاءاتها، فأظلم حتى سُدّت منافذ الأمل والصبر، أو كادت، والفسادُ قد استشرى أو كاد، والحقُّ قد خضع واستخذى، والشرُّ قد أبدى ناجذيه بقطعان داعش التي خرجت من جحور الأزمان الغابرة، ليعتمَ بها مشهد الحياة.. حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الأهلُ في محافظات (أنفسنا)، وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ خُذِلوا، وتُركوا، جَاءَهُمْ الأمل، متجلّيا بفتوى سيد النجف لـ(يَقُول هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ) فيحملَ العراقَ كلَّ العراق في سفينة الفتوى ويستنقذه من طوفان ذلك الزمن.

وما هي إلّا لحظة ولاء وانتماء، زُفَّت فيها غُرَرُ الشباب، حتّى انجلت الغمّة، وقطف العراق أطايب التحرير من غرس الفتوى، ومن نمير معينها أسال الحياة.

نعم أيها الإخوة، هذه هي صورة حقيقية لذلك الحدثِ الأهم، فهل نجحنا في تصديرها كما هي!!

فمع كل ذلك، ومع ضخامة التضحيات، وجسامتها، وثمارها ومع أنّنا عشنا الحدثَ لحظةً بلحظة، ورأينا الأحداثَ المتسارعةَ رأيَ العين، ومع أن أبطالَها ما زالوا ينعمون بالحياة بين صفوفنا، فإن صفحاتٍ مغرضةً كُتِبتْ مُحرِّفةً الكلمَ فيها عن مواضعه، وإنّ ألسنًا نطقتْ بخلاف الحقائق، وإن إراداتٍ مأجورةً أراد أصحابها أن يُطفئوا نورَ الحقيقةِ بأفواههم ...أليس هذا دليلٌ على أهمية التوثيق؟

لذلك فالعتبة العباسية المقدسة، تؤمن بأهمية توثيقِ كلِّ ما رافق وتلا الفتوى المباركة؛ ذلك التوثيق الذي أراد له سماحة المتولي الشرعي للعتبة العبّاسيّة المقدّسة العلّامةُ السيدُ أحمد الصافي، أن يصونَ الصحائف التي أرّخت لمرحلة الفتوى من عبث أيادي الزمان، والأقلام المأجورة التي بها (تنحرف الحقائقُ، وتنقلبُ الموازين، وتغيبُ المصداقيّة)، كما نصّ في كلمته التي قدّم بها لسِفر موسوعة الدفاع الكفائي.

لا شك أنّ حدثًا كهذا أولى بالتوثيق، والتدوين، والحفظ؛ ولعله الحدثُ الأهمُّ في حياة العراقيين، أقول في حياة؛ لأنّها حقًّا لحظةُ عدل الحياة بأسرها، لحظة صادمة بين أن يحيا الإنسان كما شاءت له إرادة بارئه حرًّا كريمًا، أو يموت ليولد؛ فتموت دولة الخرافة إلى غير ذي رجعة

إنّها الفتوى، أيها السادة؛ نقطةُ التحولِ الكبرى في حياة العراقيين، فهل نجحنا في توثيق كلّ ما يمتُّ بصلةٍ لها، وهل حفظنا لها حقَّها؟!!

وإذا كان الأثر يدل على المؤثّر؛ فإنّ للفتوى أثرَها في حفظ العراق، وأنّها تعكس أهميةَ الوجودِ المبارك للمرجعية الدينية العليا في النجف الأشرف وأدوارَها وآثارَها في المواقف المصيرية التي ينوء بها العراقُ في تاريخه كلِّه.

ودائمًا كان يحدّثُنا عن ظروفٍ عصيبةٍ زاغت فيها الأبصار، وبلغت فيها القلوبُ الحناجر، فوجدت في المرجعية الدينية انفراجًا وخلاصًا، وعليها لا على غيرها وقعت أعباءُ إعادةِ التوازن الى البلاد..

ومن أدوارِ هذه الفتوى المباركة وآثارِها، أنّها حرصت على وحدة الدم والتراب العراقي، فكانت الصوتَ الذي أيقظ الضميرَ العراقي، وعزّز هويتَه الوطنيّةَ، وحافظ على لُحمتهِ، ووحدةِ نسيجهِ الاجتماعي، ورسّخ قيمَ السِّلمِ المجتمعي؛ إذ لم يكن خطابُها خاصًّا بل عامًّا لكل العراقيين مشددةً على ذلك بقولها :(إنها مسؤولية الجميع..) في نصّ الفتوى المباركة.

وإنّها استنهضت قوى البصيرةِ عند العراقيين، فكشفت مدى إيمانِهم بوطنِهم وتمسكِهم بدينِهم، وأعادت لقيصرَ ما لقيصر، واستعاد الجيش العراقي عنوانه الألصق به وهو (سور الوطن) بعد أن كانت الأحزابُ قد جيّرته لصالحها، فصار الالتحاقُ به يترجم الانتماءَ والولاءَ لهم لا له.

لقد آصرت الفتوى بين جزيئاتِ الوطن، القوميّةِ والدينيةِ والمذهبيةِ التي نغلت فيها_ وقت ذاك_ براثنُ الفرقةِ والتحزب، فأصبح العراقيّون كلُّ العراقيين إخوانًا في الفتوى.

ألا يجدر بالعراقيِّ، أيِّ عراقي أن يحتفي بها، ويوقدَ لها الشموعَ، وأن يلهجَ، وبها وينهج.

علينا أن نؤمن أوّلًا أنّها من نعم الله التي لن تدومَ إلا بالشكر، فالحمدُ لله الذي قضى بيننا بالحق وأورثنا أرضنا نتبوأ منها حيث نشاء فنعم أجرُ العاملين.

وما بعد الشكر، سوى الوفاء.. نعم الوفاء للفتوى ولصاحبها ولجحافل الملبين.

لذلك تواصل العتبة العباسية المقدسة مسيرتها في درب الوفاء، اقتداء بمشرّفها سيد الوفاء والإباء أبي الفضل العباس (عليه السلام)، مؤكدة أنّ صوتَ الفتوى ما زال يتجاوبُ صداهُ في الآفاقِ البعيدة والقريبة ممتدًا عَبرَ الأزمان؛ ومن إمارات ذلك الوفاءِ أن يقيموا مهرجانًا سنويًّا للفتوى، ومؤتمراتٍ علميةً، ومسابقاتٍ أدبيةً، ومعارضَ وثائقيةً، وورشًا وجلسات، وأن نزيح الستار عن موسوعاتٍ في صميم الذكرى، ويقيموا منصاتٍ ثقافيةً تخلدهم وتحيي ذكرهم، وتفخر بهم...

لنا أن نفخر أنّ منّا صاحب الفتوى، وأنّ منّا حشدَ الملبّين لندائها.

شكرًا لكل من كان وراء هذا الزهو، وهذا الفخر.

شكرا للّجان التحضيرية والعلمية، شكرًا للباحثين.

شكرًا وافيًّا لكل من حضر من أجل أن نفي الفتوى وصاحبها وحشد الملبّين حقوقهم.

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين وصلى الله على نبينا وعلى آله الطيبين الطاهرين.

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.